ضغوط مجتمعية وحلول ودية
ضغوط مجتمعية وحلول ودية
" هل لك
أن تتخيل طفل ذو ثلاثة أعوام حرمه والده من أمه أثناء العدوان حيث الإستهدافات
المستمرة وأوامر الإخلاء ؟"
لطالما انتظرت
مها بفارغ الصبر عودة طفلها ذو الثلاثة أعوام لأحضانها، بعد انقطاع شبه تام دام
أربعة أشهر برفقة والده، فارتباط الأم بأطفالها ارتباط فطري بات من المبرر
استخدامه كوسيلة ضغط على النساء؛ لإجبارهن على التنازل عن حقوقهن ومتطلباتهن
مجتمعياً، وعلى الرغم من ذلك تشكل بعض المؤسسات جسور سلام انطلاقاً من مسؤوليتها
المجتمعية لتقريب وجهات النظر وإحقاق الحقوق في ظل غياب
دور المحاكم أثناء العدوان.
مها (28عام) نازحة وأم لطفلين
أكبرهما ثلاثة أعوام والأصغر ستة أشهر، فقبل حرمانها من ابنها الأكبر تطلعنا على
أحداث متسلسلة تعكس نمط الحياة التي كانت عليها، والتراكمات التي ينتجها العنف
المجتمعي على النساء وتقول: " قبل
خمسة أعوام تقدم زوجي لخطبتي ولم أشعر أن عائلتي قامت بالدور المنوط بهم للسؤال
عليه وعلى عائلته؛ بل بالعكس ضغطوا عليّ بالموافقة واعتبروا هذا الزواج فرصة لي
وبالفعل تم الزواج ".
تزوجت في بيت
عائلة، ولك أن تتخيل العيش في بيت عائلة حيث انعدام الخصوصية والخلافات المتكررة والتدخلات
خصوصا الأبوين ؛ فأكثر الخلافات حدة لها كان قبيل عدوان السابع من
أكتوبر عندما نشب خلاف بينها وبين أخ زوجها تذهب على أثره غاضبة لبيت والدها بعدما
نعتها بالألفاظ النابية ومحاولته التهجم عليها بالضرب.
نشب عدوان
السابع من أكتوبر ونزحت من مدينة غزة في الثالث عشر من
أكتوبر برفقة عائلتها لتقطن اليوم في خيمة في مخيم ايواء بمدينة دير البلح برفقة خمسة عشر فردا من عائلتها مبدين تذمرهم
من أطفالها وخاصة الأخ الأكبر وتقول بعينين دامعتين :"لو كنت أملك المال لما
انتظرت أن يحدث هذا وانشأت خيمتي الخاصة بهم لا يدركوا أن الأمر يأخذ أيضا من
خصوصيتي واستقراري أنا وأطفالي "
وتكمل "
لو أملك المال لوفرت احتياجات أطفالي وخاصة أصغرهم كونه بحاجة للحفاظات والحليب
ولن أطلب حينها المساعدة من أحد".
حرص زوجها بعد نزوجها بفترة على ارجاعها
مبرراً أنه لم يكن متواجد وقت الخلاف، ولو كان متواجد لما سمح لهذا أن يحدث لتعود
بالفعل. ظنا منها أن عودتها لزوجها نجاة من استياء عائلتها
وتذمرهم . بعد فترة وجيزة نشب خلاف هذه المرة بين الزوجين ليقوم
زوجها بالتطاول عليها بالضرب والتهجم على عائلتها داخل خيمتهم بسبب
اعتراضهم على تعنيفه لها، وما هي إلا
أيام قليلة ليأتي الزوج معرباً عن ندمه
راغباً بإرجاعها بعد تأكيده لها أنه سيحسن من سلوكه وطباعه التي أطلعتنا على بعض
تفاصيلها ولكنها تتحفظ على نشرها،
وتقول:" لقد وعدني بالتغيير من سلوكه وطباعه؛ لكنه لم يفعل فرفضت هذه المرة
العودة له، ليقوم بالتحايل عليّ وإقناعي أنه يرغب بإصحاب ابني الأكبر للبقالة
لشراء بعض الحاجيات لأتفاجأ أنه اصطحبهُ حيث ينزح دون إخباري بذلك أذكر يومها
عندما طال مجيئه أتصلت بزوجي مرارا وتكرارا ولم يجب حينها على مكالماتي لأرتدي
ملابس الصلاة على عجالة متجهة للبقالة لتلحق بي جارتي التي رأت ملامح الخوف والذعر
على وجهي "
تأكد لنا
جارتها ما حدث معها وتقول : "عندما رأيتها تهرع مسرعة أيقنت أن هناك أمر
ما لتخبرني أنها ذاهبة للبقالة بحثا عن
ابنها ،عند وصولنا إذ بزوجها يعاود الاتصال مخبرا إياها أن الابن برفقته وسيعيش
معه ليظهر عليها ملامح الصدمة لتنهار بالبكاء بطريقة هستيرية لأقوم باصطحابها إلى
الخيمة وتهدئتها كونها تعاني من مشاكل في العينين وشظايا بالظهر نتيجة إصابة سابقة
"
حاولت التواصل
مع زوجها تطلب منه رؤية ابنها دون علم عائلتها التي منعتها من ذلك حتى لو كان
بخصوص طفلها، وتقول: " تواصلت معه
سرا وتوسلت إليه مرارا وتكرارا رؤية ابني ليصل به الأمر حرماني منه أربعة أشهر ولم يسمح لي برؤيته إلا
مرتين إحدى المرتين كان عن بعد دون الاقتراب منه أو احتضانه بتوجيهها من والدته
حسب كلامه لي". وتضيف متحرجة : " ابني يفصلني عنه بضع أمتار ولا
أستطيع الاقتراب منه أو لمسه أي عدل هذا ألا تدرك حماتي شعور الأمومة؟"
تعيش دوامة
العنف الأسري من الزوج للأهل مضيف العدوان أبعادا جديدة فغياب طفلها حرمها
ساعات النوم وشعورها بالسكينة، دوماً ما يشغل تفكيرها الحال الذي عليه ابنها وخاصة
أننا نتعرض للعدوان، وتقول: " طفلي صغير ومخاوفي على غيابه تجاوزت القلق حول
طعامه وشرابه وملابسه، بل تجاوزت ذلك بكثير فعند سماع أي صوت انفجار أو أمر إخلاء
يرتجف قلبي عليه فأنا أخشى أن يمسه أي مكروه "
شهر تلو الآخر
حتى تمكن اليأس من قلبها، لتفقد الأمل من احتضان طفلها مرة أخرى ليأتي تدخل جمعية
الثقافة والفكر الحر من خلال مركز صحة المرأة
بدوره كوسيط من أجل إعادة الطفل لوالدته حين تمكنت إحدى المحاميات العاملات
بالمركز بعد جلسة استشارة فردية و التواصل مع الأب هاتفياً لإقناعه والاطلاع على
مبرراته حول حرمان الأم من طفلها؛ ليتبين أن هناك ضغط وتأثير من بعض أفراد عائلته
لإجبار الزوجة على العودة لزوجها، وبناء على ذلك خصص المركز فريق عمل مكون من مدير
حالة ومحامي وأخصائي نفسي ليباشر عمل زيارات ميدانية بين الأطراف المعنية لتقريب وجهات النظر وتهدئة النفوس والوصول لحل
ودي، وبعد جهد ليس بالبسيط أبدى الأب استجابته وموافقته عودة ابنه لوالدته بعد
انقطاع أربعة أشهر وبالفعل استطاعت السيدة احتضان ابنها وضمه.
ليخوض المركز
دوراً شاملاً مع مها من خلال إدارة الحالة حرصاً على دمجها وتمكينها لخلق أفاق
جديدة لها ولأسرتها بناءً على التدخلات والخدمات المقدمة سواء كانت قانونية، نفسية
اجتماعية، صحية، أو المساحات الآمنة، مقدماً خدمة الدعم والتثقيف النفسي لتعليمها
بعض المهارات والإرشادات اللازمة لتعزيز الثقة بالنفس، إدارة الضغوط النفسية،
توكيد الذات وغيرها حسب ما يلزم.
ونظراً لصعوبة
وضعها الاقتصادي في ظل عدم وجود معيل تم ترشيحها لتكون مستفيدة من المساعدات
النقدية وحقيبة الكرامة وهي عبارة عن حقيبة طوارئ صحية أساسية جاءت مساندة للنساء
في ظل شح الموارد وغلاء الأسعار.
ليستكمل
المركز جهوده في تقديم الخدمة الصحية نظراً لمعاناتها من أكياس دهنية في العينين
واصابتها بشظايا في الظهر بسبب العدوان؛ لتكون بحاجة لإجراء عمليتين مستعجلتين
لتقوم إدارة الحالة بالتشبيك مع مستشفى مركز يافا الطبي لتلقي الخدمة اللازمة
واجراء العمليتين، وفي إطار جهود التشبيك يسعى المركز بمساعدة جهة خارجية توفير
خيمة مستقلة لها ولأطفالها فهي تعيش مع أهلها بنفس الخيمة حيث العدد الكبير
والمضايقات وانعدام الخصوصية.
وتستكمل إدارة
الحالة دورها حين أدرجت بياناتها ضمن خدمات المساحة الآمنة حيث الدورات المهنية
تأهيلاً لامتلاك مشروعها الصغير لتعزيز الرفاه النفسي لدى النساء المعنفات
واشعارهن بقدرتهن على الإنتاج.
في النهاية،
عادة ما يتعمد بعض أطراف الخلاف أو جميعهم ايصال الأمور لطريق مسدود مترفعين عن
ايجاد الحلول ارضاءً لكبريائهم، فما يكون أمام الوسطاء ومن ضمنهم المؤسسات
والمراكز إلا بذل أقصى مجهود لسد الفجوات الفكرية والنفسية للأطراف للوصول لأفضل
وأسلم الحلول الودية انطلاقاً من مسؤوليتهم المجتمعية، لتصبح الوساطة خلال العدوان
هي أفضل المتاح لإيجاد حلول.
الكاتبة/ خلود ابو ظاهر